مصطفى حميدو - دمشق : ليس أمام صابر العشريني إلا مداعبة ذكرياته و استحضارها أمامه في سجنه . هذا الشاب العشريني سهل الفهم ، لكن الفهم وحده لا يكفي. فهم قصته هي محاولة لتشريح واقع طارد لأي كفاءة أو موهبة يمكن أن تخرج في مجتمع كالمجتمع السوري .
صافحته و جلست بجانبه على سريره الحديدي في زنزانته محاولا الغوص في دواخله المتنازعة. منذ اليوم الأول الذي سمعت عنه ،و رأيته ، شدني إليه هدوءه و رغبته في الحياة، رغبة تستطيع أن تلمحها في تلك الصورة المتقنة الرسم التي يضعها بجانبه لخطيبة من الواضح أنها تكبره بما يقارب العشر سنوات لم يعد يعرف عنها شيئا . عرفها و أحبها بعد وفاة زوجها الفنان التشكيلي المغمور . أنقذها من نصاب حاول استغلال فقدانها لرجل تستند عليه بعد وفاة زوجها. منذ دخوله السجن انقطعت أخبارها عنه و لم يعد أمامه غير الصورة يسر لها و تسر له .
أخرج صابر علبة دخانه الحمراء القصيرة من جيبه ، ناولني واحدة و أشعل واحدة و أخذ يمج منها مجا و ينفخ دخانها و كأنه يفرغ غضبه و حزنه في ذلك.
سألته :
- ألم تعد تعرف عن خطيبتك شيئا ؟ أين ذهبت ؟
قال :
- لا أعرف .. صديقي قال لي بأنها سافرت .. ربما إلى الجزائر حيث كان يعمل زوجها ..قال لي بأنها ذهبت لتتزوج ..هي الآن في الخمسة و الثلاثين و انتظارها لانقضاء حكم الثمان سنوات يعني بأنها ستنتظر سرابا .
امتلأت عيناه بالدموع و هو يخبرني بذلك . قلب الصورة مخفيا إياها عني و عنه . أخذ نفسا عميقا و أخذ يحدق بي منتظرا أن أسأله. قلت له :
- يجب أ ن لا تحزن.. أنت كشاب ما زلت صغرا و هي تكبرك و لا يمكن لعلاقة كهذه و حتى و إن لم تدخل السجن أن تستمر .
قال مستنكرا:
- و لكني أحبها .. هل عندك دواء لهذا ؟!
أفحمني بجوابه. اكتفيت فقط بالصمت . بحركة مباغتة منه , قرر أن يغلق ما كنا نتحدث منه و أن يخرج لي ما كنت قادما لأجله . أخرج من تحت سريره حقيبة أقراص مدمجة أخذ منها واحدا و أعطاني إياه . كان هذا القرص يحوي جزء من إنتاجه المدهش.
لا يمكن تصنيف إنتاج صابر إلا تحت عنوان الفن . انه فن متميز نابع من موهبة فذة من الصعب أن تتكرر. أخبرني بذلك صديق عندما حدثني عنه أول مرة و يحكي لي قصته. خلته يحكي لي عن واحد من كثيرين يتصنعون الفن و يدعونه لكنهم لا يملكون منه أيا من مقوماته .
كان جالسا بجانبي و أنا أقلب في تلك اللوحات الموجودة على القرص المدمج عبر جهاز حاسوبي الشخصي، يشرح لي قصة كل واحدة و فكرتها. كانت اللوحات خليطا بين فن الجرافيك و فن الرسم اليدوي المتقن المعالج بتقنية الحاسوب.
- مدهش ..
قلتها بصوت خافت أظنه سمعها مما شجعه على الإفصاح عن المزيد.
فكرة خرافية
. أخرج قرصا أخر من الحقيبة و أعطاني إياه قائلا :
- هذا مشروع عمري الذي لم يكتمل !
أخذت القرص و أدخلته إلى الكمبيوتر لأرى ما لم أتوقع أن أراه .
كان ما أعطاني إياه هو الأكثر خرافية من بين ما أعطاني إياه من بين إنتاجه. كان خليطا من كل أنواع الفنون ، من الرسم إلى الكتابة و التحريك و إلى فيلم رسوم متحركة متقن التنفيذ فردي الانجاز ... انه إنتاجه الذي أراد من خلاله المشاركة في مهرجان للرسوم المتحركة لكنه عجز عن تأمين تكاليف و رسوم المشاركة فقبع ما حققه حبيس الأدراج مخفيا إنتاجا خرافيا لا يمكن إلا أن ينال جائزة في أي مهرجان أو مسابقة يشارك فيها .
بالرغم من أن صابر لم يدرس إلا للصف السادس الابتدائي في وسط ظروف عائلية صعبة ، إلا أن خرافية إنتاجه هذا نابعة من كون تحصيله العلمي محدود .فكرة الفيلم و قصته البسيطة المعبرة تعكس فهما عميقا منه للواقع قد لا نجده حتى عند حملة شهادات عليا .
القصة ببساطة هي قصة عود ثقاب ينير فكرة حتى تنمو شخصياتها و لتدوس هذه الشخصيات بعد ذلك عود الثقاب و تطفئه. إنها قصة مليئة بالرمزية التي يعجز الكثيرين عن ملامستها.
انتهى صابر كعود الثقاب بطل عمله الكرتوني. الكل داس عليه و أصبح خلف القضبان ينتظر.
و ما زال ينتظر
نظرت إليه بحزن و أنا أرى ما أراه . حرام أن يؤول مصير شاب كهذا إلى السجن . انسدادا الأفق و عدم وجود من يأخذ بيد صاحب الموهبة تؤديان إلى هذا المصير حتما.
فموهبته شاع صيتها في مجتمعه الصغير . وصلت إلى عصابة لتزوير العملة فاستغلتها أيما استغلال .
يقول صابر :
- كان الأمر ما بين الجد و الهزل . كنت أظن الأمر تسلية و هزل. رسمت ورقة الألف ليرة بإتقان و أعطيتهم إياها فوصلت إلى هنا.
يعيش صابر الآن بلا أمل لا يعرف حتى ما سيفعله بعد انقضاء مدة حكمه . كل ما يشغل باله هي خطيبته التي ذهبت و لم يعد يسمع عنها شيئا.
· الأسماء الواردة في النص السابق هي أسماء غير حقيقية اقتضى طلب صاحب العلاقة وضعا بديلا عن أسمائهم.
..
ReplyDeleteلا تعليق
هلأ اشتغلت عندي التصاميم.
ReplyDeleteحرام هالشب يضل بالسجن.
يا ريت ترسل الموضوع للصحف الالكترونية.
البلوغ سبوت محجوب بسوريا.
I agree that he has talent but to get 8 years in prison that means he did something really bad to the society, therefore, with or without his talent nothing will change the reality that this young man is a criminal.
ReplyDelete