Wednesday 31 January 2018

وثيقة مؤتمر سوتشي الختامية


نحن المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني السوري بوصفنا ممثلين لمختلف أطياف المجتمع السوري بقواه السياسية والمدنية ومجموعاته العرقية والطائفية والاجتماعية، اجتمعنا تلبية لدعوة من روسيا الاتحادية الصديقة في مدينة سوتشي، بغرض إنهاء سبع سنوات من معاناة شعبنا من خلال التوصل لتفاهم مشترك حول الحاجة لإنقاذ وطننا من الصراع المسلح والخراب الاقتصادي والاجتماعي واستعادة كرامتها اقليميا ودوليا واقرار الحقوق والحريات الأساسية لكل مواطنيها وفي مقدمتها الحق في الحياة بحرية وسلام دونما عنف أو ارهاب. وهو الهدف الذي لا يمكن بلوغه إلا من خلال التسوية السياسية لمشاكل وطننا على أساس المبادئ التالية

  الإحترام والإلتزام الكامل بسيادة ]دولة سوريا / الجمهورية العربية السورية[ واستقلالها وسلامتها الإقليمية ووحدتها أرضا وشعباً. وفي هذا الصدد لايجوز التنازل عن أي جزء من الأراضي الوطنية ويظل الشعب السوري ملتزما باستعادة الجولان المحتل بكافة الوسائل القانونية وفقا لميثاق الأمم المتحدة وللقانون الدولي

  الإحترام والإلتزام الكامل بالسيادة الوطنية لسوريا على قدم المساواة مع غيرها وبما لها من حقوق في عدم التدخل في شؤونها. تمارس سوريا دورها كاملاً في إطار المجتمع الدولي وفي المنطقة٬ بمافي ذلك دورها كجزء من العالم العربي٬ وذلك وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وأهدافه ومبادئه

  يقرر الشعب السوري وحده مستقبل بلده بالوسائل الديموقراطية وعن طريق صناديق الإقتراع ويكون له الحق الحصري في إختيار نظامه السياسي والإقتصادي والإجتماعي دون أي ضغط أو تدخل خارجي ووفقاً لواجبات سوريا وحقوقها الدولية

  تكون ] دولة سوريا / الجمهورية العربية السورية[ دولة ديموقراطية غير طائفية تقوم على التعددية السياسية و المواطنة المتساوية بغض النظر عن الدين والعرق والجنس ٬ مع الإحترام الكامل و حماية سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء والمساواة الكاملة بين جميع المواطنين والتنوع الثقافي للمجتمع السوري٬ وصيانة الحريات العامة بما في ذلك حرية المعتقد؛ و كل ذلك في إطار من الشفافية وشمول الجميع والحكومة الخاضعة للمساءلة والمحاسبة بما في ذلك أمام القانون الوطني٬ مع اتخاذ التدابير الضرورية والفعالة لمكافحة الجريمة و الفساد وسوء الإدارة

  تلتزم الدولة بالوحدة الوطنية والسلم الإجتماعي والتنمية الشاملة والمتوازنة مع التمثيل العادل على مستوى الإدارة المحلية

  استمرارية الدولة والمرافق العمومية الأخرى وتحسين أدائها٬ مع إصلاحها عند الإقتضاء٬ بمافي ذلك حماية البنى التحتية وحق الملكية وتوفير الخدمات العامة لكافة المواطنين دون تمييز وذلك وفقا لأعلى معايير الحكم الرشيد والمساواة بين الجنسين. ويتمتع المواطنون٬ في مجال علاقاتهم مع جميع السلطات العامة٬ بآليات فعالة تضمن الإمتثال الكامل لسيادة القانون وحقوق الإنسان وحقوق الملكية العامة والخاصة

  بناء جيش وطني قوي وموحد يقوم على الكفاءة ويمارس واجباته وفقاً للدستور ولأعلى المعايير. وتتمثل مهامه في حماية الحدود الوطنية والسكان من التهديدات الخارجية ومن الإرهاب. وبناء مؤسسات أمنية ومخابرات تحفظ الأمن الوطني وتخضع لسيادة القانون وتعمل وفقا للدستور والقانون وتحترم حقوق الإنسان. وتكون ممارسة القوة إحتكاراً حصرياًّ لمؤسسات الدولة ذات الإختصاص

  الرفض القاطع والإلتزام بمكافحة جميع أشكال الإرهاب والتعصب والتطرف والطائفية ومعالجة أسباب إنتشارها

  إحترام وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة ولاسيما أوقات الأزمات بما في ذلك ضمان عدم التمييز ومساواة الجميع في الحقوق والفرص بغض النظر عن العرق أو الدين أو الإثنية أو الهوية الثقافية أو اللغة أو الجنس أو أي أساس آخر للتمييز؛ وإيجاد آليات فعالة لضمان تلك الحقوق تأخذ بعين الإعتبار الحقوق السياسية والحق في المساواة والفرص للمرأة بما في ذلك إتخاذ تدابير فعالة لضمان تمثيلها ومشاركتها في المؤسسات ودوائر صنع القرار٬ مع إعتماد آليات تهدف لضمان مستوى تمثيل للمرأة لايقل عن ٣٠٪ وصولاً للمناصفة

  تعتز سوريا بمجتمعها وهويتها الوطنية وبتنوعها الثقافي التاريخي ٬ وبالإسهامات والقيم التى جلبتها كل الأديان والحضارات والتقاليد إلى سوريا بمافي ذلك التعايش بين مختلف المكونات إلى جانب حماية التراث الثقافي الوطني للأمة وثقافاتها المتنوعة

  محاربة الفقر والقضاء عليه وتوفير الدعم للمسنين والفئات الهشة الأخرى والتي تشمل ذوي الإحتياجات الخاصة والأيتام وضحايا الحرب بما في ذلك ضمان أمن وسكن كافة النازحين واللاجئين وكذا ضمان حقهم في الرجوع الآمن والطوعي لمساكنهم وأراضيهم

  صيانة وحماية التراث الوطني والبيئة الطبيعية لصالح الأجيال القادمة طبقاً للمعاهدات المتعلقة بالبيئة وبما يتماشى مع إعلان اليونسكو بشأن التدمير المتعمد للتراث

تحقيقا لذلك، فقد اتفقنا على تأليف لجنة دستورية تتشكل من وفد حكومة الجمهورية العربية السورية ووفد معارض واسع التمثيل، وذلك بغرض صياغة إصلاح دستوري يسهم في التسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وفقا لقرار مجلس الأمن رقم ٢٢٥٤

هذه اللجنة الدستورية ستضم - بالحد الأدني - ممثلين للحكومة وممثلي المعارضة المشاركة في المحادثات السورية السورية، وخبراء سوريين وممثلين للمجتمع المدني ومستقلين وقيادات قبلية ونساء. مع إيلاء العناية الواجبة لضمان التمثيل الدقيق للمكونات العرقية والدينية في سوريا. على أن يكون الاتفاق النهائي على ولاية ومراجع إسناد وصلاحيات ولائحة إجراءات ومعايير اختيار أعضاء هذه اللجنة الدستورية عبر العملية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف

ونناشد أمين عام الأمم المتحدة أن يكلف المبعوث الخاص لسوريا بالمساعدة في إنجاز أعمال هذه اللجنة الدستورية في جنيف

سوتشي ٢٩-٣٠ كانون الثاني/يناير ٢٠١٨

المصدر: موقع وزارة الخارجية الروسية

http://ar.mid.ru/729

Share:

مشتركات الإخوان و البي كي كي

لا يمكن أن أتعاطف مع أي كيان يعلي روحه القومية أو الدينية على حساب الروح الوطنية. مشكلتان أساسيتان واجهت سورية على مدى عقود: الإخوان المسلمين و البي كي كي. تجرأت الدولة و اصطدمت مع الإخوان و استخدمت كل أساليب القوة لسحقهم بينما عمليا تحالفت مع البي كي كي خلال الثمانينات و التسعينات بكل ما يعني التحالف من معنى. لا يمكن فهم مسببات ذلك بأي حال. فإذا مثلا قارنا بين الإخوان و البي كي كي سنصل إلى عوامل مشتركة بينهما. فكلاهما له تأييد شعبي بين جمهور معين و الطرفين لهما جناحين عسكريين و الطرفين امتداداتهما خارجية و الطرفين قاما و يقومان بتطهير ديني و عرقي لكن الفرق الوحيد الذي يختلفان فيه هو رغبة الإخوان في حكم سورية كلها بينما يريد البي كي كي سلخ و حكم جزء من سورية.

مصطفى حميدو

Share:

Sunday 21 January 2018

الطريقة الرفاعية و الإرث العائلي

الطريقة الرفاعية و الإرث العائلي

أول مشهد أراه و يتعلق بالطريقة الرفاعية التي تتوارثها العائلة منذ مؤسسها الأول السيد أحمد الرفاعي الحسيني كان عندما عاد خال أبي من الحج. في ذلك اليوم خرجت "النوبة" من الزاوية الرفاعية في القرية إلى الطريق القادم من حلب جنوبها قاطعة القرية من الشمال إلى الجنوب. كانت "النوبة" عبارة عن أعلام خضراء منقوش عليها عبارات دينية و دفوف و حملة الأعلام مع حملة الدفوف كانوا ينشدون أناشيد دينية. كان يتقدم الكل شيخ الزاوية الرفاعية في القرية آنذاك  الشيخ عثمان حج عثمان رحمه الله (بعد وفاته لم يرث الزاوية أحد و بقيت مهجورة حتى تهدمت). كنت في ذلك الوقت صغيرا، لم أفهم معنى ما أرى و لا خلفيته التاريخية.  الدينية. بعدما كبرت و أخذت أقرأ عن الطرق الصوفية، أدركت أن ما رأيته هو إرث عائلي متوارث و أن العائلة تتوارث الطريقة الرفاعية جيلا بعد الآخر. هذه الحادثة كانت تقريبا في نهاية ثمانينات القرن العشرين و  لم أذكر أني قد رأيت "النوبة" هذه مرة أخرى لكن مما قاله كل كبار السن في القرية أنها كانت أمرا معتادا في استقبال الحجيج في القدم في القرية.
تمر السنون و أبدأ في حضور الموالد خصوصا تلك التي تقام في ذكرى المولد النبوي الشريف. تقريبا بعد عشر سنوات من الحادثة الأولى كانت تجربتي الأولى مع الموالد التي تقام في ذكرى المولد النبوي.
عرفت في يوم المولد النبوي أن احتفالا سيقام في مسجد التوبة في القرية و هو مسجد للعائلة هي من بنته و هي من تصرف عليه و فيه قبور لأحد أجدادنا و فردين من العائلة. عندما بدأت التكبيرات في المسجد المقابل لبيتنا جاءت جدتي و طلبت مني أن أذهب و أحضر الإحتفال. كانت تعرف أني غير مغرم بهذه الطقوس، إلا أن إصرارها جعلني اذهب بداية لأتذوق حلوى جوز الهند الطازجة الساخنة و لأرضي فضولا بدأ  يتشكل عندي من كلام جدتي عن جمال المولد الذي سيقام إحتفالا بالمولد النبوي.
ذهبت فعلا و أخذت من حلوى جوز الهند الساخنة و من ثم دخلت إلى قاعة المسجد. كانت الصفوف منتظمة و المشايخ يتلون الورود و الصلوات و ينشدون المدائح النبوية كعادتهم في الموالد. كان الصوت الجماعي لإنشادهم يجعل للمكان هيبة فوق هيبته تتسرب من خلاله لداخلك طاقة عجيبة تجعل النفس منتشية و الروح سعيدة. يبدو أن هذا الإنتشاء وصل لذروته فأطفئت الأنوار و بدأ الصفوف تتمايل يمنة و يسرى تخرج منها كلمة واحدة متكررة بموسيقى ثابتة " الله.. الله.. الله". ظلت الصفوف هكذا لفترة ثم أعيدت الأنوار و انتهى المولد.
لم أكن أعرف و أنا في ذاك العمر الصغير أن ما رأيته هي إحدى طقوس الطريقة الرفاعية المتوارثة في عائلتنا منذ ٨٠٠ سنة. كلما كنت أكبر كنت أفهم تجذر هذه الطريقة في حياتنا و حياة العائلة حتى أنها كانت تشكل ركنا أساسيا في العلاقات بين أهل القرية و خصوصا بين أفراد عائلتنا.

مصطفى حميدو

Share:

عمرو الملاّح : أحمد جمال باشا وإعداماته لنخبة من المفكرين العرب.. القصة التي لم ترو بعد


عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر

“أنا لا أعتقد أن أحداً دفع جمال باشا إلى قتل أو نفي أحد، حتى إن رفقاءه في الآستانة لم يدفعوه إلى ذلك، وهذا أمر تحققته قبل نهاية الحرب، وبعد نهاية الحرب.. فأمّا من أهل سورية فلست أنسب إلى أحد حتى ولا للشيخ الشقيري أنه هو السبب في خطة جمال باشا هذه.. ولكن الشقيري كان يحاول تغطية أعمال جمال وابتغاء العذر عنه، لتكون له خدمة عنده”.

تلكم كانت مقتطفات من الرسالة التي وجهها الأمير شكيب أرسلان النائب في مجلس المبعوثان العثماني إبان الحرب العالمية الأولى والعارف بخفايا السياسة العثمانية إلى فخامة الرئيس السوري الشيخ تاج الدين أفندي الحسني من مرسين والمؤرخة في 13 حزيران/ يونيو من العام 1924، ويحمل فيها المسؤولية عن إعدام نخبة من المفكرين العرب في العام 1916 بدمشق وبيروت لأحمد جمال باشا الملقب في الحوليات التاريخية السورية بـ”السفاح”.

وفي ضوء نص الرسالة هذه التي تعد وثيقة تاريخية بالغة الأهمية يتبين لنا أن إعدام نخبة من المفكرين العرب في العام 1916 إنما كان بتدبير من أحمد جمال باشا وحده دون سواه متوسلاً بالصلاحيات شبه المطلقة الممنوحة له بحكم إشغاله مناصب ناظر (وزير) البحرية العثمانية، وقائد الجيش الرابع العثماني، والحاكم العسكري على ولايات بلاد الشام (سورية-دمشق، وحلب، وبيروت) ومتصرفيتيها (القدس ودير الزور) مجتمعة، وكذلك بموجب حالة الطوارئ والأحكام العرفية المعلنة في البلاد بسبب الحرب العالمية الأولى التي كانت دائرة آنذاك.

والثابت تاريخياً أن قرارات الإعدام تلك التي أصدرها “ديوان الحرب العرفي” في عاليه، وكان بمثابة محكمة عسكرية استثنائية، لم تقترن بالإرادة السنية، أي أنها لم تخضع لمصادقة السلطان العثماني محمد الخامس رشاد في العاصمة استانبول، وهو ما يؤكده المفكر القومي العربي عزة دروزة الذي كتب قائلاً: “لقد أخبرني المرحوم أمين التميمي إنه كان قد عُين في سنة 1917 مفتشاً على بعض المناطق التي جرت فيها حوادث الأمن. وأخذ يتردد على دوائر الباب العالي للاطلاع على بعض الأمور والملفات. وبينما هو في سبيل ذلك همس له مدير الأرشيف قائلاً: “لعل الأفضل لك أن تقرأ هذا الملف”. وكان ملف قضية أحرار العرب. وأنه قرأ في هذا الملف برقيتين متبادلتين بين أنور وجمال، حيث كتب الأول للثاني بما ترجمته “أن خليل بك، وكان هذا وزيراً للعدلية في الحكومة العثمانية، مستاء ويقول إن جمال شنق رجال العرب بدون أن يقترن ذلك بالإرادة السنية”. وحيث أجاب جمال بما ترجمته “إنك تعرف كم أن خليل بك (مزمزا)”، والكلمة تعني متحذلق، متعب، متعنت، “أمّا الإرادة السنية ففي إمكانكم استصدارها في أربع وعشرين ساعة. وهذا يبين أن جمال باشا نفذ الحكم بإرادته.”

ويبين العلامة القانوني الجليل الأستاذ أسعد الكوراني- المعاصر لتلك الأحداث- في مذكراته الذرائع القانونية التي ساقها جمال باشا تبريراً لتعجيله تنفيذ أحكام الإعدام من دون إقرارها من المرجع الأعلى في العاصمة استانبول بقوله: “لا شبهة في أن جمال باشا أخطأ أشد الخطأ في سياسة الإرهاب التي اتبعها في سورية ولبنان وفلسطين، وكان الخطأ بمنتهى الشدة في تنفيذ أحكام الإعدام من دون إقرارها من المرجع الأعلى في الآستانة كما يقضي القانون. ولما تلقى الأمر بإرسال أوراق الدعاوى إلى ذاك المرجع عمد إلى استغلال قانون يبرر لقائد الجبهة تصديق وتنفيذ حكم الإعدام على فاعل جرم ارتكبه في ساحة الحرب لضرورة حماية سيرها من دون انتظار التصديق من المرجع الأعلى البعيد الذي يتطلب وقتأ طويلأ بطبيعة الحال.”  

ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن أحمد جمال باشا ومنذ تعيينه في بلاد الشام أواخر العام 1914 راح يجري عبر وسطاء من الأرمن اتصالات سرية مع دول الحلفاء الذين كانوا في حالة حرب مع السلطنة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، وهي مرحلة كانت ترسم فيها الخرائط لاقتسام تركة السلطنة العثمانية، التي كانت على وشك التفكك والانهيار.

ولم تقتصر اتصالات جمال باشا على الروس فحسب، وإنما شملت أيضاً كلاً من الفرنسيين والبريطانيين؛ وذلك بهدف إقناعهم بالموافقة على إعلانه الاستقلال عن الدولة العثمانية وتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً على بلاد الشام بأكملها، مقابل أن يرضى جمال باشا بأن تترك المضائق واستانبول للحلفاء، ويتعهد أن يترك الطريق حرة لمساعدة الأرمن.

والواقع إن وضع مساعي جمال باشا للاتفاق مع الحلفاء في سياقها التاريخي هو ما يفسر السياسة التي انتهجها إزاء “المسألة الأرمنية”، وما تسمت به من المرونة في محاولة منه للحصول على موافقة الحلفاء على تحقيق أهدافه، على نحو ما ذهب إليه المؤرخ الفرنسي الأرمني ريمون هـ. كيفوركيان، وهو موضوع كنا قد تناولناه في مقالة سابقة؛ بينما نجد أن السياسة التي انتهجها جمال باشا تجاه “المسألة العربية” اتسمت بطابع أكثر تشدداً وعنفاً.

ولعلنا نشير هنا إلى أن تنفيذ جمال باشا لما سمي بـ “حملة ترعة السويس” في العام 1915 والتي منيت فيها القوات العثمانية بهزيمة مدوية إنما يندرج في سياق محاولته التغطية على اتصالاته السرية تلك.

ولئن دأبت الرواية الرسمية للتاريخ السوري على تصوير أن الإعدامات التي نفذها أحمد جمال باشا (السفاح) كانت تندرج في سياق الصراع العربي- التركي/ العثماني أو النزعة القومية العربية مقابل النزعة الطورانية التركية، الذي كان السمة الغالبة على التاريخ العثماني المتأخر بعد الإطاحة بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني بالعصيان ثم الانقلاب العسكري على مرحلتين في عامي 1908 و1909، وطبعها بطابعه حينما تسلط على الدولة ومقدراتها “ثالوث الباشوات الأتراك” (طلعت وجمال وأنور) ممن كانت لهم الهيمنة على “جمعية الاتحاد والترقي”، التي باتت بمثابة الحزب الحاكم في الدولة من وراء ستار أو ما يعرف بـ “نظام الازدواجية”، فراحوا ينتهجون سياسة “التتريك”، التي سببت نفور المكون العربي في الدولة، وكانت من الأسباب التي عجلت بانهيار الدولة العثمانية.

إلا أن حقيقة أمر هذه الإعدامات أنها أتت في سياق إبعاد أحمد جمال باشا لهؤلاء المفكرين العرب من مختلف مدن سوريا ولبنان عن المشهد السياسي تحت ذريعة اتصالهم ببعض العواصم الأوروبية ومن بينها باريس ولندن في الفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، واتهامه لهم باستمرار تخابرهم معها حتى بعد إعلان الدولة العثمانية حالة الحرب عليها سعياً للانفصال عن الدولة العثمانية؛ وذلك للحيلولة دون وقوفهم عقبة كأداء أمام تحقيق طموحاته في حكم بلاد الشام.

غير أنه سرعان ما تلاشت آمال جمال باشا العريضة تلك بعدما جاءه الرفض الفرنسي، لأن فرنسا كانت ترى نفسها صاحبة الكلمة في مستقبل سورية، التي لا يمكن لأحد من أتباع العثمانيين أن يتحكم بمصيرها على نحو ما يذكر المؤرخ العراقي الدكتور فاضل بيات نقلاُ عن مذكرات سليمان شفيق باشا وزير الحربية العثماني في العام 1919. بينما اتسم الموقف البريطاني إزاء مخططات جمال باشا بالتحفظ، نظراً لانهماك البريطانيين في مفاوضات أكثر أهمية كانوا يجرونها آنذاك مع الشريف حسين، وإبرام الطرفين اتفاقاً للتعاون المتبادل في مقابل الدعم البريطاني “للمطالب العربية”.   

وهكذا نرى أن مسألة إعدام نخبة من المفكرين العرب على يد أحمد جمال باشا لم تأت ضمن سياق الصراع التركي – العربي ولا النزعة القومية العربية مقابل النزعة الطورانية التركية، وإنما كانت القضية برمتها محض سياسية وتتصل بالحلم الذي كان يراود أحمد جمال باشا بتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً، ولهاثه وراء سراب كان يرسمه الغرب.

ولن يطول بجمال باشا المقام في سوريا، إذ سيجري التعجيل بإبعاده عنها والقضاء على حلمه بتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً عليها بعد عزله من مناصبه كافة وتجريده من جميع صلاحياته الاستثنائية والاكتفاء بتسميته عضواً في هيئة الإدارة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي؛ وذلك على خلفية افتضاح أمر مخططاته واتصالاته السرية بعد الثورة البلشفية في أواخر العام 1917 وتسرب الوثائق والمراسلات التي تدينه إلى القابضين على السلطة الفعلية في العاصمة اسطنبول ممثلين بقرينيه المنافسين له الباشوان أنور وطلعت.

مراجع

– أسعد الكوراني، ذكريات وخواطر مما رأيت وسمعت وفعلت، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2000؛

– أمين سعيد. الثورة العربية الكبرى: تاريخ مفصل وجامع للقضية العربية في ربع قرن. المجلد الأول. مكتبة مدبولي. القاهرة، لا تا؛

– د. فاضل بيات، “جمال باشا السفاح وهوس الاعتلاء على عرش سوريا”، جريدة السفير” (بيروت)، تا 02/10/2001؛

– مجلة “الأسبوع العربي” اللبنانية، ع 624، تا أيار 1971، عدد خاص حول قضية إعدام أحرار العرب؛

– Raymond Kévorkian. The Armenian Genocide: A Complete History. London and New York: I.B. Taurus, 2011.

Share:

Saturday 20 January 2018

العلاقة بين آل مظلوميان أصحاب فندق بارون وأحمد جمال باشا.. بين السردية الشفاهية والواقعة التاريخية

عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر

العلاقة بين آل مظلوميان أصحاب فندق بارون وأحمد جمال باشا.. بين السردية الشفاهية والواقعة التاريخية

 تقول الحكاية إن فندق بارون الشهير بحلب اتخذ إبان الحرب العالمية الأولى مقراً للقيادة المشتركة العثمانية-الألمانية. وحينما وصل الفريق أول أحمد جمال باشا وزير (ناظر) البحرية وقائد الجيش الرابع العام إلى المدينة أقام على شرفه الجنرال الألماني أوتو ليمان فون ساندرز باشا مأدبة فاخرة بذل الأخوان أرمين وأونيك مظلوميان صاحبا الفندق في إعدادها جهداً كبيراً. فما كان من جمال باشا إلا أن طلب إلى الأخوين مظلوميان إعداد وليمة مماثلة يرد بها على تلك التي أقامها الجنرال الألماني على شرفه، ليتفاجأ، عندئذ، برفض أرمين مظلوميان طلبه هذا في وقت لم يكن يجرؤ فيه أحد على أن يرد طلباً لجمال باشا. وعندما سأله عن سبب رفضه أجابه مظلوميان: “إنني من أجل الباشا لا أعد وليمة مماثلة بل أعد وليمة أفضل بكثير”. راق لجمال باشا هذا الجواب ونشأت بينهما صداقة عميقة.  

لا تخلو الحكاية هذه التي تنتمي إلى السرديات الشفاهية من التبسيط المخل بل والسطحية التي لا تلامس جوهر العلاقة الخاصة التي كانت تربط بين آل مظلوميان وأحمد جمال باشا إبان الحرب العالمية الأولى، وما كان لها من تأثير على مصائر المرحلين الأرمن الذين جرى توطينهم في سوريا في مرحلة شهدت تطبيق الحكومة “الاتحادية” المركزية في استانبول برنامج الإبعاد (ديبورتيشن) للأرمن من ولايات الأناضول الشرقية؛ وذلك على خلفية بروز النزعة القومية الانفصالية “الأرمنية”، ومساندة بعض الوحدات الأرمنية لجيوش الإمبراطورية الروسية الزاحفة نحو الدولة العثمانية، واحتلالها أراض كانت تعتبرها “أرمنية”، ووقوع مجازر وعمليات إبعاد على يد هذه الوحدات بحق سكان المناطق تلك وجلهم من الأكراد.     

والواقع إن حلب أصبحت في صيف العام 1915 مركزاً لتجمع المرحلين الأرمن الذين تدفقوا عليها قبل أن يصار إلى توزيعهم في كل من حماة ودير الزور. كما أنها اتخذت مقراً لتنفيذ عمليات الإغاثة الإنسانية لمساعدتهم. وسيضطلع آل مظلوميان الذين يحظون برعاية جمال باشا بدور محوري في العمليات الإغاثية تلك التي سيسهلها جمال باشا.

وعلى النقيض من الصورة التنميطيّة المرسومة عن جمال باشا على أنه أحد مهندسي ما يسمى بـ “الإبادة الجماعية الأرمنية” إلى جانب كل من طلعت باشا ناظر الداخلية، وأنور باشا ناظر الحربية، الذين كانوا يعرفون بـ “ثالوث الباشوات الأتراك” (طلعت وجمال وأنور) القابضين على مقاليد السلطة في الدولة العثمانية والقياديين في “جمعية الاتحاد والترقي”، التي أصبحت بمثابة الحزب الحاكم في السلطنة في مرحلة ما بعد الإطاحة بالسلطان عبدالحميد الثاني، فإن السياسة التي انتهجها جمال باشا إزاء “المسألة الأرمنية” اتسمت بقدر كبير من المرونة بخلاف سياسة طلعت باشا الأكثر تشدداً وتطرفاً وعنفاً.

  أحمد جمال باشا (1873 – 1922)

ترجم جمال باشا هذه السياسة في شكل التقرب من الأرمن المقيمين في مناطق بلاد الشام غير المشمولين بقرارات الإبعاد التي أصدرتها الحكومة الاتحادية في اسطنبول، ومن بينهم آل مظلوميان، إلى جانب تهيئة ظروف أفضل لإعادة توطين المرحلين الأرمن في المناطق الخاضعة لسلطته، وإيصال المساعدات الإنسانية لهم، متوسلاً بالصلاحيات شبه المطلقة الممنوحة له بحكم إشغاله مناصب ناظر البحرية العثمانية، وقائد الجيش الرابع العثماني، والحاكم العسكري على ولايات بلاد الشام (سورية-دمشق، وحلب، وبيروت) ومتصرفيتيها (القدس ودير الزور) مجتمعة، وكذلك بموجب حالة الطوارئ والأحكام العرفية المعلنة في البلاد بسبب الحرب العالمية الأولى التي كانت دائرة آنذاك.

ويعزو المؤرخ الفرنسي الأرمني ريمون هـ. كيفوركيان المعاملة التي تلقاها المرحلون الأرمن على يد جمال باشا والتي اتسمت بالرأفة مقارنة بسواه من المسؤولين “الاتحاديين” إلى أسباب محض سياسية تتعلق بالخطط التي كان يعدها للاستقلال عن الدولة العثمانية، وتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً على بلاد الشام بأكملها، في الفترة التي كانت ترسم فيها الخرائط تمهيداً لاقتسام تركة السلطنة العثمانية، التي كانت على وشك التفكك والانهيار. كما يعتبر كيفوركيان أن جمال باشا اتخذ هذا الموقف “المتميز” إزاء الأرمن في مسعى منه للحصول على موافقة الحلفاء على تحقيق أهدافه.

ويذهب المؤرخ السوري أمين سعيد- وهو المعاصر لتلك الأحداث- إلى المذهب ذاته معتبراً أن جمال باشا استعان بالأرمن في فتح قناة اتصال مع الحلفاء “فأخذ يحاسنهم، ويتقرب إليهم، ويدخل الذين يبلغون حدود الأقطار في سلطته تحت جناح حمايته”.

بهذا الصدد، نشر سعيد في كتابه المرجعي “الثورة العربية الكبرى” مقتطفات من الوثائق السرية التي عثر عليها البلاشفة الروس في مقر وزارة خارجية روسيا القيصرية في أواخر العام 1917، وتتعلق بسعي جمال باشا للاتفاق مع الحلفاء.

وتشير الوثائق السرية تلك التي تعود إلى الفترة الممتدة بين تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1915 وآذار/ مارس من العام 1916 إلى وجود صلة بين أحمد جمال باشا وقادة أرمن إبان وجوده في بلاد الشام، وتوسيطه إياهم في طرح “مشروع اتفاق” على الروس الذين سيتولون لاحقاً عملية تسويقه لدى كل من بريطانيا وفرنسا، يتضمن اعتراف “الدول المتحالفة” به سلطاناً على اتحاد يتكون من سوريا، وفلسطين، والعراق، وعربستان، وكيليكية، وأرمينية، وكردستان، مقابل أن يرضى جمال باشا بأن تترك المضائق واستانبول للحلفاء، ويتعهد أن يترك الطريق حرة لمساعدة الأرمن.

والواقع إن انفتاح جمال باشا على الأرمن وحرصه على إقامة أفضل العلاقات مع قياداتهم وناشطيهم في المجال الإغاثي، وفي مقدمتهم آل مظلوميان، وكذلك التدابير التي اتخذها وما اتصفت به من الرأفة حيال المرحلين الأرمن، لا يمكن فهمها واستيعابها إلا إذا وضعناها ضمن سياقها التاريخي.  

وفي ظل الحظر الذي فرضته الحكومة “الاتحادية” المركزية في استانبول على عمل منظمات الإغاثة الدولية كان لافتاً الدور المحوري الذي اضطلع به أرمين وأونيك مظلوميان صاحبا فندق “بارون” الشهير، اللذين وصفهما كيفوركيان بأنهما كانا من الوجهاء المحليين الذين كانت لديهم حظوة عند جمال باشا، في إقامة شبكة سرية تكوّنت نواتها في حلب ووسّعت نطاق عملها تدريجياً ليشمل المنطقة بأسرها، وكانت لها ارتباطات حتى بالعاصمة استانبول ذاتها.

وستتولى الشبكة السرية تلك إيصال المساعدات الإنسانية، ولا سيما الغذائية منها والتي كان يقدمها جمال باشا ذاته، على المرحلين الأرمن حتى دير الزور، وتوفير الرعاية للأيتام، وإخفاء الشبان والمثقفين، وكلها أنشطة كان يمولها بصورة أساسية مجلس إدارة مندوبي الإرساليات الخارجية في الولايات المتحدة عبر مشفى عينتاب الأمريكي.

ولئن توصّل طلعت باشا ناظر الداخلية، أواخر تموز/ يوليو من العام 1915، إلى معرفة أن موفدَين أرمنيين أرسلا من حلب إلى دير الزور، يوزعان الأموال على المرحلين فأمر باعتقالهما، فإن كثراً آخرين مرّوا من دون أن ينتبه إليهم أحد وأنجزوا مهماتهم من دون أن يثيروا الريبة. وأفلح الأديب الأرمني يرفانت أوديان (1869- 1926)، على سبيل المثال، في التسلل إلى حلب بتواطؤ من موظف أرمني يعمل في السكك الحديدية، ليقيم في ميتم موضوع تحت رعاية سيدة ألمانية صديقة لجمال باشا، الذي تغاضى عن أنشطة هذه المؤسسة الخاصة بالأرمن. وما إن تعرّض أوديان للمضايقات حتى توجّه بكل بساطة إلى أونيك مظلوميان، صاحب فندق “بارون” المشغول غالباً من جانب القيادة العامة للجيش الرابع، والذي عُدّ ملاذاً للمثقفين الأرمن وسط سيل المرحلين. وواقع الأمر أن أهم أحد أنشطة الشبكة تلك إنما تمثل في منح الأفضلية لإنقاذ الأدباء، إدراكاً منها أن “بقاء الأمّة” لا يمكن أن يتحقق إلا بهذا الثمن، على حد وصف كيفوركيان.

وما كان عمل صاحبي فندق “بارون” ليمرّ من غير أن يلفت انتباه طلعت باشا وزير الداخلية الاتحادي الذي أمر في صيف العام 1916 بفتح تحقيق في أنشطتهما، على نحو ما يؤكد المؤرخ التركي تانر أكشام. ولسوف يستغل طلعت باشا مغادرة جمال باشا مدينة حلب إلى القدس مؤقتاً ليصدر تعليماته بترحيل آل مظلوميان إلى الموصل؛ فما كان من جمال باشا إلا أن تدخل، ممارساً ضغوطات على الحكومة الاتحادية المركزية للحيلولة دون تطبيق قرار الترحيل واستبداله بالنفي المؤقت إلى جبل لبنان الخاضع لسلطته.

وفي نهاية العام 1917 عاد الأخوان مظلوميان إلى حلب ليرحبا، بعدئذ، في فندقهما بالفريق مصطفى كمال باشا، الذي سيعرف لاحقاً بمصطفى كمال “آتاتورك” مؤسس تركيا الحديثة وبطلها القومي في أعين مريديه.

وأما راعيهما جمال باشا فسرعان ما تكشفت اتصالاته السرية بالحلفاء بعد الثورة البلشفية التي قامت في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1917، وتسربت الوثائق والمراسلات التي تدينه إلى القابضين على السلطة الفعلية في العاصمة اسطنبول ممثلين بقرينيه المنافسين له، ألا وهما الباشوان أنور وطلعت. وجرى، عندئذ، التعجيل بإبعاده عن سورية والقضاء على حلمه بتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً على بلاد الشام، وعزله من مناصبه كافة، وتجريده من جميع صلاحياته الاستثنائية، والاكتفاء بتسميته عضواً في هيئة الإدارة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي.

مراجع

– أمين سعيد. الثورة العربية الكبرى: تاريخ مفصل وجامع للقضية العربية في ربع قرن. المجلد الأول. مكتبة مدبولي. القاهرة، لا تا؛

– Raymond Kévorkian. The Armenian Genocide: A Complete History. London and New York: I.B. Taurus, 2011;

-Taner Akçam, ‘Guenter Lewy’s The Armenian massacres in Ottoman Turkey’, Genocide Studies and Prevention, Volume 3, Issue 1, April 2008

Share:

Sunday 14 January 2018

تنقية خطاب الحاقدين

أنا لا أحب الحديث عن سنة و شيعة و عن تمييز طائفي بين البشر. لكن ما أراه بين الناس هنا على هذا الموقع يندى له الجبين. فعندما مثلا يهاجمون صلاح الدين الأيوبي فإن كل هجومهم عليه سببه حقد طائفي لا أكثر. نعم حقد متوارث منذ ألف عام. فصلاح الدين أعلن نهاية الدولة الفاطمية في مصر و صلاح الدين ألغى إرث الحمدانيين الديني شمال سورية كلها و لكن السؤال هنا ماذا كان الحال قبل الحمدانيين و الفاطميين؟ إذا أردنا أن نحاكم التاريخ فعلينا أن نحاكمه كله و ليس أن نختار ما يروق لنا و نصب كل حقدنا عليه و إلا علينا أن نصمت و نعالج واقعنا فقط لا غير و نترك ما فعله سلفنا دون أن نسقط عليه عقدنا. للأسف معظم من يدعون العلمانية هنا هم طائفيون يتهمون غيرهم دون أن يقرؤوا هم نصوصهم التي إن قرؤوها سيتوارون خجلا. كلنا مبتلون بالخطأ فلا تظهر نفسك أنك ملاكا و ترمي غيرك بما ليس فيه.

" بعد هزيمة اسماعيل الصفوي في غالديران... تمرد جند السلطان سليم و طالبوا بالعودة إلى الديار فعاد سليم و مر بتبريز... فخرج علماء السنة المتخفين مع العوام للترحيب به ظانين أنه سيضمها لدولته.. لكنها ما هي أيام حتى غادرها و عاد اسماعيل الصفوي للسيطرة عليها فأعمل بهم القتل و التشريد"

مصطفى حميدو

Share:

Thursday 11 January 2018

ثقافة الإستعارات و التعميم

أقارن في أحيان كثيرة بين كتابات العرب الصحفية و الأدبية و حتى كتابات السيرة الذاتية و بين تلك التي يكتبها غيرنا و أصل دوما لنفس النتيجة و هي أننا شعب مجبول بالخوف.
فكل ما نكتبه يعتمد على التلميح و الإشارات و الإستعارات دون أن نصرح بدقة عما نريده و عمن نقصده. إذا ذهبت إلى الصحافة الغربية مثلا تجدهم يتكلمون عن الأحداث مع ذكر الأشخاص بأسمائهم الصريحة و الأمكنة بأسمائها دون أن يعتمدوا على التلميح و "التبعيض" أي أن يقولوا إن البعض يقوم بهذا الشئ أو ذاك دون أن يقولوا بصراحة من هو.
نحن شعب نخاف و في دواخلنا خشية من كل شئ. لا أعرف بالضبط السبب و لكن بالتأكيد أنه سبب مرتبط بتراكمات إجتماعية و دينية و تاريخية جعلتنا على الدوام متحفظين من التصريح مكتفين بالتلميح.
يصف العرب الذكي بأنه ذاك اللماح الذي يكتفي بالإشارة ليعرف و يفهم المقصود و يبدو أنهم حتى في كتاباتهم يطبقون ذلك. فالعرب ملوك التأويل، و التأويل يحتاج لإشارة أو معنى مبهما  غير واضح. فاللغة العربية مليئة بالكنايات و الإستعارات و أساس بلاغتها هي هذه الإستعارات و الكنايات. أوجد العرب مذاهب دينية كاملة مبنية على التأويل و المعنى الباطني للنص معتمدين على علم الكلام و المنطق و الفلسفة. هذا بالضبط ما ورثه الكتاب المعاصرون. فتجدهم يهربون من التصريح إلى المعاني المضمرة التي تحتاج إلى خبير ليفك معانيها. قد تكون عدم الرغبة بالإصطدام بالسلطات السياسية و الدينية و الإجتماعية هي السبب في اتباع هذا الأسلوب. فسطوة هذه السلطات يمكن أن تحول حياة أي شخص لجحيم. فنقدم الحاكم تراه يرمز بنقد حاشية غير معرفة بصريح العبارة بل إنهم يلجؤون إلى تجهيل هذه الحاشية كمن يريد أن يضيع التهمة بين جمع كبير في تشابه مع مثل عربي شهير و هو " إضاعة الدم بين القبائل".
ما ينطبق على الحاكم ينجر إلى كل السلطات التي تفرزها الحياة. فالتصريح خطر على حياة من يقول و الترميز و التجهيل هو نجاة من سطوة لا يحتملها أغلب الناس. فالصحف العربية مثلا لا تحتوي على نصوص تنقد شخصا أو تتهم جهة، بل إ كل الموجود هو تعميم في النقد و تعميم في الإتهام. إنه الخوف. قد تكون طبيعة طرق التدريس تلعب دورا مهما في صياغة عقلية الناس و عقلية من يكتب. فالتاريخ مثلا عندما يدرس في الغرب، يدرس بطريقة النقد و التمحيص لا بالحفظ و التقديس. إنهم يشرحون نصوصهم و تاريخهم و ينقدونه و في نفس الوقت يعتزون به. هي فروق في الثقافات و العقليات و طرق التدريس و التعليم.

مصطفى حميدو

Share:

Sunday 7 January 2018

بيوت الخفاء في حلب الشهباء


نبيل سليمان- صحيفة العربي الجديد  23 نيسان 2017

لم يسبق لأحد أن امتلك جرأة فتح خزائن مدينة حلب، ليسد في التراث الشعبي الثلمة المتعلقة ببيوت الخفاء، أي ببيوت البغاء: هكذا يختم إياد جميل محفوظ كتابه (بيوت الخفاء في حلب الشهباء خلال القرن العشرين: خزائن لم تفتح- دار الحوار2017). ويؤسس المؤلف حكمه هذا على اليسير المحدود المتعلق بالبغاء في حلب، مما وقع عليه أثناء إعداد كتابه طوال خمس سنوات. ومن ذلك اليسير ما في (إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء) للعلامة الشيخ محمد راغب الطباخ، وفي (نهر الذهب في تاريخ حلب للشيخ كامل الغزي). ومن الأبحاث المعاصرة (بحسيتا… حكاية بيوت المتعة في حلب – 2008) لعلاء الدين السيد. وقد خص المؤلف الشعر المتعلق بالبغاء بفصل أثبت فيه قصيدة نزار قباني الشهيرة (المبغى)، ومنها ما جاء على لسان البغيّ: “يا لصوص اللحم يا تجّارهُ/ هكذا لحم السبايا يؤكلُ/ انبشوا في جثث فاسدة/ سارق الأكفان لا يختجلُ”. كما أشار المؤلف إلى قصيدة بدر شاكر السياب الشهيرة (المومس العمياء)، وفيها من المشهدية والحدث والشخصية ما يخاطب فصول كتاب (بيوت الخفاء…) بامتياز، حيث تظهر جيف البغايا والحارس المكدود، والمومس العمياء (تطفئ مقلتاها شهوة الدم في الرجال). وفي هذه القصيدة بخاصة هوذا السؤال المزلزل: “ومن الذي جعل النساء/ دون الرجال، فلا سبيل إلى الرغيف سوى البغاء؟”.

يقدم القاص السوري المعارض خطيب بدلة لكتاب (بيوت الخفاء…) بالقول إنه بحث علمي تاريخي من نوع خاص جداً، مكتوب بموضوعية وَحَيْدة، وغير مكتوب بمنطق ذكوري، كما واءم الكتاب بين الجانب التاريخي والتوثيقي، وبين الجانب الأدبي. أما الروائية السورية المعارضة سوسن جميل حسن، فترى أن الكتاب فريد في نبشه في أسرار المتعة المحظورة المرغوبة، وفي نفائس المجتمع الحلبي، مقدماً فسيفساء من العلاقات وأنماط السلوك والأمكنة، وكنوزاً من نسيج حلب المزركش بألوان الحياة، وبذلك جاء الكتاب تحفة سردية غنية وشائقة.

المنهجية:

في ثقافتنا ومجتمعاتنا، ومع كتاب إياد جميل محفوظ، يعجّل التحريم بالويل والثبور. ولدرء ذلك بقدر الشجاعة على مواجهته، صدّر محفوظ كتابه بقول هاروكي موراكامي: “عملي هو رصد العالم والبشر، وليس الحكم عليهم”. وأضاف محفوظ تصديراً من لدنه، هو أيضاً، وكالتصدير السابق، إعلان عن منهجية الكتاب، حيث نقرأ: “بين الصمت والخجل تضيع الحقيقة، وتولد بدلاً عنها الخرافات. وبين الغباء والغفلة تندثر الذاكرة الجمعية، وتسود بدلاً عنها حكايات خاوية”. ويشدد المؤلف على أنه حاول جاهداً أن ينحّي سفه القول ومباذله، حرصاً منه على أن يقرأ كتابه الصغير قبل الكبير، دون أن يجرح ذوقهم الخلقي الوقور المحتشم والمترفع عن بذيء القول. وهكذا تحدد التقية من شر السلطان الاجتماعي أولاً، منهجية الكتاب. وفي هذا ما يتصل بالنفاق اللغوي والخصاء اللغوي اللذين يحكمان الكثير من إبداعاتنا وأبحاثنا، وليس لغوياً فقط، لكأن الجاحظ وأصناءه الميامين ليسوا أجدادنا ولا أئمتنا. وهكذا نرى مؤلف (بيوت الخفاء…) يشبه نفسه بجهاز التصوير الذي يجسد الخير والشر كما هما في الحياة. على أن المؤلف سيردف بالقول إن حلب (أم المدن وحواء مدن العالم) منجم حكايات، وهذه المأهولة الأقدم بين المدن، تدفع إلى اختراق حكاياتها المسيجة بأسلاك محظورات الموروث الديني والثقافي، والقفز فوق جدران التابوهات المقدسة التي زرعتها العقول الخشبية في وجداننا الجمعي. وفيما يبدو الآن، كما لو أن ثمة تنافساً على تدمير تراث حلب ومجتمعها بأشد الوسائل شراسة وخسة، فقد كانت المدينة الوسطية الحيوية المتجددة، ولذلك يذهب المؤلف إلى أن الثقافة الجمعية للمدينة سبق أن عدّت البغاء ضرورة.

لماذا هذا الكتاب:

يحدد إياد جميل محفوظ غرض كتابه بسد فجوة من تاريخ المدينة، يسودها الإظلام، ولطالما وصف الاقتراب منها بالإسفاف. ويلخص علامات منهجه بالحيادية والموضوعية والحشمة. ولأن مصادره محددة فقد تقفى أيضاً الروايات الشفاهية والتجارب الشخصية، عبر ذاكرة أصدقاء وأطباء ورجال دولة متقاعدين و… وغربل هذا المصدر الشفاهي، وأخضعه لتقاطعات كما يليق حقاً بالبحث العلمي.

في عام 1900، وعندما كان عدد سكان حلب مئة ألف، فتحت الحكومة العثمانية أكثر من مائتي بيت حملت اسم (المنزول) – عدا عن مئات البيوت غير المرخّصة – لممارسة الدعارة المنظمة، وذلك لتوفير الخدمة الجنسية للعسكر، وبموافقة وإفتاء شيخ الإسلام أبو حنيفة، بدعوى درء الحد عن واطئ المستأجرة، وذلك كما ينقل محفوظ عن الشيخ كامل الغزي. وبعدما كانت (بيوت الفحش) سرية في منطقة (كرم الكسمة) المجاورة لقشلة الترك – وهي ثكنة هنانو اليوم – صارت علنية في داخل السور، في (بحسيتا). ويعلل محفوظ اختيار هذا الحي (العريق الآهل) بوجود غالبية من الطائفة اليهودية فيه، والتي تعد البغاء تجارة مشروعة. ويضيف المؤلف أن تلك سمة الجاليات اليهودية في العالم (؟).

مراحل تطور البغاء:

يقسم محفوظ مراحل تطور بيوت الخفاء الحلبية إلى ثلاث، الأولى من 1900- 1920 أثناء الاستعمار العثماني، والثانية أثناء الاستعمار الفرنسي 1920-1946 حيث فرضت الرقابة الصحية الصارمة، والثالثة من 1946 حتى 1961 حيث ألغيت تراخيص البيوت وحصرت الدعارة في مكان واحد، وباتت لهذا القطاع شرعيته وقوانينه وأعرافه وتقاليده، بينما تلت شيخوخته منذ صدر قانون إلغاء بيوت الدعارة عام 1961 في عهد الجمهورية العربية المتحدة (الوحدة السورية المصرية) وجمال عبد الناصر. وقد تأخر تنفيذ هذا القانون حتى 1974. وينقل محفوظ عن الشيخ الطباخ أن التشريع العثماني في حلب، أسوة بمدن السلطنة، جاء بعدما “فشا أمر الزنا في أبناء الشهباء وما حولها بعد أن كانوا تمثال الفضيلة”، وقد فشا، غير غضب الله، داء الزهري والإفرنكي (الإفرنجي) والتعقيبة.

يعنون محفوظ القسم الثاني من كتابه بالاسم الذي أطلقه الحلبيون على المكان الرسمي الوحيد للدعارة (المحل العمومي)، وهو ما سموه أيضاً بالمنزول، وشارع 142، وبحسيتا، الحي الذي كان في شارعه الرئيسي محلات تجارية تقدم خدمات ولوازم للمحل العمومي أيضاً، وكان التجار يعاملون النزيلات بشكل طبيعي. وعن عالم المحل يكتب محفوظ أن الفتيات لم يكنّ يعملن قسراً، ومعظمهن كنّ يأتين من خارج حلب، وبينهن من هنّ من خارج سورية أيضاً. ومقام البغي في المنزول يكون برخصة رسمية، ولها غرفة مستقلة تحت إشراف المشرفة التي تعرف بالبترونة أو الأمّاية أو المعلمة، والتي كانت تخاطب المتسكعين في المواسم: “ياشباب الله يرضى عليكم لا تضيعوا أوقاتنا وأوقاتكم فالدنيا أعياد وأيام جبر..”.

تفاصيل:

من النزيلات من ضبطت للمرة الثالثة متلبسةً بجرم الدعارة خارج المحل العمومي، لذلك تساق إلى المحل، ولكن دوماً في غير بلدتها، تفادياً لردات فعل ذويها. وكان بجوار المحل (حمام الهنا) الذي خصص فيه وقت للنزيلات كجزء من النسيج الاجتماعي للمنطقة. كما كان لمن تمتلك موهبة فنية أن تقدم (نمرة) في مسرح – مقهى السلام مقابل مدخل المحل، وتُلقب عندئذ بالخوجة. وللبغي يوم إجازة أسبوعياً، تخرج فيه بلباس محتشم وبلا زينة. وبغير الإجازة، لا فكاك للبغي من المحل إلا بالموت أو الزواج. ومن النزيلات من تزوجت، وكان الزوج يوقع إقراراً بعدم ردها لأي سبب، ولكن إذا فرت إحداهن مع أحدهم، وعاشت معه سراً أو علناً، فالشرطة، إذا ما اكتشفتها، تعيدها إلى المحل. وفي بداية عهد المحل كان للبغي (صاحب) يهيمن عليها ويحميها، ويستلم آخر الليل ما جمعت من المال (الغلة)، ويمكن أن يبيت معها. أما إذا كان الصاحب حبيباً، فله أن يأتي بعد منتصف الليل، ويلقب بـ (السيفونجي)، وحين يتزوج من حبيبته البغي ينبذه أهله ومجتمعه، فتنفق الزوجة عليه. ويكون الزواج بحفل يسمى (البالو) وتحضره صديقاتها وأصدقاؤه، وهكذا تُحرَّم على أصدقائه ويحرّم هو على زميلاتها. وفي سوق البغاء هذا يكون السعر بحسب الشكل والعمر والخبرة، ويرتفع بارتفاع الأسعار عموماً. ويكون السعر الأعلى للبضاعة الطازجة التي تقيم الدار الأولى بعد مفرزة الأمن، وقد كان في السبعينات 11.5 ليرة، ثم ينخفض السعر في عمق الأزقة حتى تصبح 3.5 ليرة، وسرّ نصف الليرة هو أنها للقواد.

يحدد المؤلف أركان هذا العالم بأربعة، أولها لرأس الهرم (القوادة) التي تدرب البغيّ الجديدة وتفض النزاعات، وتتصف بالحكمة والشدة، وتدير شؤون الدار. وفي شيخوختها تنقل إلى منزل قريب حتى تموت، وتعيش من صدقات المحسنين، وتوهب جثتها إلى مشرحة كلية الطب منذ منتصف الستينات.. أما الركن الثاني فهو للبغي (المومس) حيث الأسماء المستعارة، وتتغير اللهجة وتُنكر الجذور على سبيل التقية، وحيث الشللية والمناطقية والغيرة، وتبادل الزيارات في المناسبات، والقيام بواجب العزاء..

والركن الثالث هو للقواد الذي يخدم رأس الهرم – ويعرف أيضاً بـ (الخدمتجي) – كما يردع الزبون المشاغب، ويهدئ المشاحنات. والمكان هو الركن الرابع، ويقدم المؤلف وصفاً دقيقاً له، كما يفرد للجوانب الإنسانية فصلاً خاصاً، ومن ذلك حكاية الفتاة اليونانية كاترينا التي قطع زبون يدها ليسرق سوارها، إذ لم يتمكن من نزعه من معصمها، فأضربت المومسات عن العمل، وتسابقن إلى المشفى للتبرع بالدم، وأقمن مولداً على نية شفاء كاترينا، وتحجبت المسيحيات كالمسلمات أثناء قراءة المولد، لكن كاترينا ماتت. ويذكر الكاتب أن الكساد ساد فجأة، وقيل إن الشباب عزفوا عن المحل العمومي بفعل موجة دينية، وبفعل شح الأرزاق في المدينة، وسوء الطالع، فتوجهت ثلاث مومسات إلى صومعة الشيخ إبراهيم، الذي زودهن بحجب ممهورة بخاتمة، فتحسنت الأحوال، فما كان من إحداهن إلا أن نصّبت نفسها مندوبة للشيخ المشعوذ، وتضاعف دخلها مع اطراد انتشار الحجب!

ويفرد المؤلف فصولاً لكل من الرقابة الصحية والأمنية. ومن الأخيرة منع الأحداث دون الثامنة عشرة من ارتياد المحل العمومي، وكذلك منع المتزوجين والمشروبات الروحية، ومنع عناصر القوات المسلحة إلا في الأوقات المخصصة لهم بعد ظهر يوم الخميس وفي مسائه، حيث تحل الشرطة العسكرية محل الشرطة المدنية في ضبط الأمور.

ما بعد إغلاق المحل:

بإغلاق المحل العمومي عام 1974 توزعت مصائر نزيلاته، فانتقل قسم إلى دير الزور أو القامشلي. وفي القامشلي، حيث تأخر إغلاق المحل العمومي إلى الثمانينات، كان المحل يسمى (البيت الأبيض). وعمل قسم آخر من النزيلات (المسرّحات) في دوائر الدولة، حيث يحتقرهن الموظفون، بينما عمل قسم ثالث في بيع الزهور، وانتشر في المدينة المثل القائل: (أقوى من بائعة زهر) بسبب شراستهن. وقد تم ترحيل غير السوريات. وثمة من تبن، ومن تابعن العمل في بيوت سرية.

وبإغلاق المحل العمومي ظهر ما يسميه مؤلف (بيوت الخفاء…) بالدعارة الحرة. فإذا كان القطاع العام (المحل العمومي) قد أغلق، فقد أخذ القطاع الخاص يكاثر البيوت السرية في العقد الأخير من عمر القطاع العام، بسبب اطراد الحديث عن إغلاقه. وقد توالى انتشار تلك البيوت في أحياء الحميدية والجابرية والعامرية، وبخاصة في حي الشيخ طه، ومن بعد في منطقتي الميرديان والموكامبو الراقيتين. وعلى غرار ما تقدم من الحديث عن أركان المهنة الأربعة، يلي الحديث عن هذه الأركان بعد الإغلاق، حيث بات الأمر متاحاً للقاصرين والمتزوجين، ونشطت عمليات الرتق، وتراجعت الرقابة الحكومية حتى تبددت، وجرائم الشرف تضاعفت، ومن بيوت الدعارة ما صار يعمل تحت إشراف الأجهزة الأمنية.

في فصل (أعجب العجب في طبائع حلب) يتحدث محفوظ عن التسامح الاجتماعي واستحسان التوبة، فمن يتزوج بغياً شرعاً، يثاب. ومن التائبات من بلغن مقاماً اجتماعياً رفيعاً. ومن الحكايات التي يفيض بها كتاب (بيوت الخفاء…) انضمام ابن إحدى التائبات إلى الإخوان المسلمين ومصرعه أثناء القتال بينهم وبين السلطة منذ أربعة عقود. كذلك هي حكاية الكفيف المولع بالمحل العمومي، وحكاية البغي أم جمال التي تساهلت القوات العسكرية والأمنية كرمى لها، في تفتيش حي الشيخ طه أثناء القتال المذكور. وثمة أيضاً حكاية وداد قازان الشهيرة الجميلة التي لم تتقنع باسم مستعار، وكان زبائنها من الضباط والمسؤولين والتجار. وفي فصل آخر، يتحدث إياد جميل محفوظ عن السيدة نظلة التي عملت في الدعارة في شبابها، ثم انصرفت إلى جوقة الغناء في أعراس النساء، وقيل إنها يهودية، ولم تزل حية.. ويمضي البحث إلى (الحجّيات) اللواتي يمارسن الرقص والغناء البدوي في خيام مع أسرهن على طريق حلب دمشق وحلب الرقة، وقد كانت أشهرهنّ هي المطربة يسرا البدوية التي نشأت في حي الشيخ طه، وكذلك ابنة أختها نوفا البدوية.. ويستطرد محفوظ إلى كباريهات قاع المدينة التي تراقبها الشرطة، وتسحب من المغنية أو الراقصة فيها بطاقة نقابة الفنانين إن مارست الدعارة.

وعلى العكس هي الملاهي الرفيعة، مثل كازينو اللونابارك الذي غنت على مسرحه أم كلثوم، عندما حمل الناس سيارتها من أوتيل بارون إلى المسرح، أو مثل مقهى الأزبكية الذي كان محمد عبد المطلب آخر من غنى فيها عام 1951، ومثل قهوة الشهبندر التي غنى فيها محمد عبد الوهاب والشيخ زكريا أحمد ونور الهدى، ورقصت فيه نجوى فؤاد، وآلت ملكيته إلى يسرا البدوية. وكنت في عام 1956 قد شاهدت نجاة الصغيرة تغني في (الشهبندر) عندما اصطحبني صديق لوالدي في أول سفر لي إلى حلب.

تحت عنوان (الدعارة ما بعد الحداثة) يتابع المؤلف البحث في ما آل إليه هذا القطاع بفعل ثورة الاتصالات، حيث تنوعت الدعارة بين الإلكترونية، وشبه القانونية (الزواج العرفي) والترفيهية، والعكسية، أي حيث يكون الرجل هو البغيّ الذي تستأجره امرأة. وهكذا يتصل البحث التاريخي لكتاب (بيوت الخفاء…) في الماضي بالحاضر الذي لا يخص حلب وحدها، بل يتعلق بسنوات الزلزال السوري الذي تصدعت فيه قيم وأسر، واستجدت ظروف وعلاقات، إنْ في الداخل أو في مخيمات اللجوء، حيث يتفاقم الحديث عن تجارة الجنس أو الدعارة أو البغاء أو أقدم مهنة في التاريخ.. ولعل من المهم في الختام أن يشار إلى حضور البغيّ المميز في روايات (عرس بغل) للطاهر وطار و(نشيد الحياة) ليحيى يخلف و(عباد الشمس) و(باب الساحة) لسحر خليفة و(خمارة جبرا) لنبيل الملحم و(هزائم مبكرة) لكاتب هذه السطور، وسواها كثير، في سلسلة ضاربة في أعماق التراث العربي الإسلامي بخاصة، والإنساني بعامة، وفي هذه السلسلة ينتظم هذا البحث المعمق والشجاع والمميّز، والتربوي أيضاً: كتاب (بيوت الخفاء في حلب الشهباء).

Share:

Telegram

Podcast