Thursday 30 March 2006

مصير النظام السوري

السياسة الدولية
خليل العناني
إلي أين يسير النظام السوري؟ برز هذا السؤال للواجهة بعد الاعترافات التي أدلي بها عبد الحليم خدام النائب السابق للرئيس السوري، والتي نزعت عن الموقف السوري في تحقيقات اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.خطورة اعترافات خدام، لا تكمن فيما ذكره من معلومات قد تغير مجري التحقيقات، بقدر ما تتعلق بالتوظيف السياسي لها، واستثمارها في الضغط علي النظام السوري لإخراجه عن رشده، و'تبديد' صموده في مواجهة الضغوط الخارجية. ولم يكن لهذه الاعترافات أن تثير ما أثارته من قلق وتوتر امتد إلي خارج حدود سوريا، لو لم يتم تحويل المسألة برمتها من مجرد التحقيق في اغتيال الحريري، إلي فتح الباب أمام استجواب النظام السوري نفسه، ووضعه في مواجهة صريحة مع استحقاقات أخري، ستحاول بعض القوي استثمارها لفرض مزيد من الضغوط علي القيادة السورية.- مغزي اعترافات خدام:كثيرة هي تلك التعليقات التي تناولت موقف نائب الرئيس بالنقد والتحليل، بيد أن ما يهم هو التعرف علي مدي تأثير هذه الاعترافات علي وضع النظام في سوريا، وتحديداً موقف القيادة السورية ممثلة في الرئيس بشار الأسد. ذلك أن الحملة علي سوريا، والتي بدأت فور انتهاء غزو العراق قبل ثلاثة أعوام، لم تكن تستهدف النظام بقدر ما هو ماثل الآن. ولعل أخطر ما في اعترافات خدام، أنها تنطلق من التقاء للرغبة الذاتية لخدام نفسه في الثأر لتاريخه الطويل الذي أمضاه في خدمة النظام السوري والذي يمتد لأكثر من ثلاثة عقود، مع رغبة بعض القوي الخارجية في 'تهذيب' سلوك النظام السوري، وتقليم أظافره في العديد من القضايا الأخري المتداخلة مع مسألة اغتيال الحريري. في الوقت الذي نضجت فيه الأوضاع الداخلية بسوريا إلي الدرجة التي تعقد أزمة النظام ولا تحلحلها.أي أن مغزي الاعترافات هو في توقيتها القاتل، وهو ما أفرز عدة نتائج أهمها:أولاً: انتقلت التحديات التي تواجه النظام السوري من مجرد إثبات الحقيقة في اغتيال الحريري، وهي مسألة ستنتهي إن أجلا أو عاجلاً، إلي تحديات تحوم حول بقاء النظام ذاته. فثبوت مشاركة القيادة السورية في مسألة اغتيال الحريري، ولو بالتحريض، من شأنه أن يوفر مناخاً دولياً وإقليمياً رادعاً لها لن يخفف منه سوي دفع الثمن، وهو لن يكون شخصياً، بقدر ما يرتبط بشرعية النظام وصورته الداخلية. فمن شأن أي مقايضة بين التهدئة والتصعيد، أن يتنازل النظام السوري عن أفكاره حول حدود دوره الإقليمي، الذي بات عملياً في حكم الغائب، ولكن يأبي الاعتراف به. وهو ما يضر شرعية النظام التي بنيت في جزء كبير منها علي دوره الخارجي، خصوصاً في ظل حال الكبت والقهر الداخلية.ثانياً: تفرض اعترافات خدام نوعاً من العزلة الداخلية والإقليمية والدولية علي النظام السوري، وهي عزلة تأكل من رصيد النظام لدي مختلف القوي الداعمة له، أو التي يفترض أنها كذلك، فلا الظرف الدولي، ولا المناخ الداخلي، يسمحان بأن يدفع أحد فاتورة أخطاء نفر من 'المتهورين'، في حين ينجو هؤلاء بفعلتهم.ثالثا: أن اعترافات خدام قد وفرت فرصة لتفخيخ النظام السوري من الداخل، واقتربت بالأوضاع هناك من سيناريو 'الموت البطئ' وهو الذي يقوم علي تسخين الداخل بدرجات متفاوتة، حتي لا يجد النظام أمامه من بد سوي التسليم بالحقائق الجديدة، وهي هنا تتعدي حاجز مهادنة الخارج، وإنما بداية التصدع في بنية النظام الداخلية.رابعاً: أن الاعترافات زادت من حجم الفجوة بين سوريا ولبنان، خصوصاً إذا بعد حديث خدان عن تورط مباشر للقيادة السورية في اغتيال الحريري، وهو ما يفقد سوريا ورقة إقليمية مؤثرة، ويدفع بالتحالف التاريخي بين البلدين نحو مرحلة جديدة من التفسخ وصعوبة الترميم.- رد الفعل السوري:لم يكن غريباً أن يهرع النظام في سوريا لتفادي نتائج اعترافات خدام، ذلك أن الصراع مع هذا الأخير يتعدي ما هو موضوعي ليصل إلي ما هو شخصي، أي أنه بات صراعاً بين ندين متنافسين (خدام والأسد)، وهو ما يزيد من تعقيد موقف هذا الأخير.وكما كان متوقعاً فلم تكن اعترافات خدام سوي بداية الخيط باتجاه استهداف الأسد ذاته. وهو ما دلت عليه التصريحات اللاحقة لخدام، والتي أدلي فيها بكثير من الوقائع التي تدين الأسد ذاته ويمكنها أن تشكل بداية النهاية له إذا ما أسيئ استخدامها.ولم يكن غريباً أيضا أن يكون أول تحرك للقيادة السورية، عقب اعترافات خدام، ليس باتجاه التعاون مع لجنة التحقيق، وإنما لتوقيف خدام عن الاستمرار في اعترافاته المقلقة، والتي تستهدف بالأساس النظام السوري وليس كشف الحقيقة. من هذا المنطلق تحركت سوريا في اتجاهين: الأول هو محاولة 'إسكات' خدام بأي شكل، والثاني التشديد علي رفض طلب لجنة التحقيق الدولية بمثول الرئيس الأسد أمامها. ويمكن القول أن سوريا نجحت، نسبياً، في مسعاها الأول، حيث انقطع فجأة 'صوت' خدام عن كثير من وسائل الإعلام، ولم يعد يلتفت كثيراً لما يقوله، حتي بدا الأمر وكأنه 'هذيان' لا يجب الاستماع إليه أو التوقف عنده.أما المنحي الثاني، فلا يزال معقداً، ولم يتغير موقف النظام السوري باتجاهه كثيراً، بيد أن ما يلفت الأنظار في الموقف السوري هو انخفاض 'نبرة' التحدي في مواجهة لجنة التحقيق، ويروج الآن حديث حول احتمالات التضحية بكبش فداء، وهو قد يكون آصف شوكت صهر الرئيس الأسد، أو رستم غزالي المسئول السابق عن الجهاز الأمني السوري في لبنان.المشكلة الآن، ليست في التعاطي السوري مع لجنة التحقيق، بقدر ما هو في إدراك النظام السوري لحقيقة الأخطار المحيطة به، وهي التي وصلت الآن إلي درجة 'قطع الرؤوس'، فما كان مستبعداً قبل ثلاث سنوات، بات وارداً اليوم، وقريباً من التحقق، وبعوامل دفع ذاتية، لم يسهم فيها الخارج سوي بالتوجيه والاستثمار الجيد. فضلاً عن ذلك فلم تعد أوراق اللعب السورية علي حالها كما كان الأمر من قبل، فلا تلاعب بالورقة العراقية بات متاحاً، ولا توجيه للورقة الفلسطينية بات مباحاً، ولا استغلالاً للوجود في لبنان بات مسموحاً به. إذا الدائرة تضيق، وتكلفة الخروج منها ستكون باهظة، بيد أن الحل الآن ليس في دفع الثمن وإنما في تقليل كلفته إلي أقصي حد.- رد الفعل العربي:لم يكن الموقف العربي في حاجة إلي اعترافات خدام كي يدرك حجم الأزمة التي تعيشها سوريا، وإن كانت هذه الاعترافات قد أذابت الكثير من الغموض حول حقيقة ما يحدث هناك. ومنذ بدء الأزمة عقب اغتيال الحريري والموقف العربي يزداد نضوجاً، ذلك أن المسألة لا تتعلق بمصير سوريا في حد ذاتها، وإنما في مصير المنطقة بأسرها. وهو ما دفع بالكثير من القيادات العربية إلي توجيه النصح، وأحياناً الضغط ، من أجل حلحلة الموقف السوري وجعله أكثر 'رشداً' وعقلانية في مواجهة استحقاقات المرحلة.وما يهمنا في هذا الصدد هو شكل التحرك العربي عقب اعترافات خدام، ومن ثم تفسير هذا التحرك. فقد بدأت مصر بالتحرك في اتجاهين، الأول باتجاه تخفيف حدة التوتر المكتوم بين المملكة العربية السعودية، وسوريا، ذلك أن ثمة تخمينات بأن السعودية تدعم اعترافات خدام بشكل أو بأخر، عطفاً علي العلاقات الخاصة بين المملكة وعائلة الحريري، فضلاً عن تمادي الجمود في موقف النظام السوري من التحقيقات. كما تقدمت مصر بمبادرة لتخفيف الضغوط علي النظام السوري، عرفت بمبادرة 'الأمان السياسي' وتقوم علي توفير الأمان السياسي للنظام السوري لئلا يؤدي التحقيق الى اسقاطه، شرط ان تتجاوب دمشق مع لجنة التحقيق الدولية باعتبار ذلك السبيل الوحيد لقطع الطريق على المطالبات الدولية بتغييره.ولا تعني هذه النظرية تعطيل التحقيق ومنعه من كشف الحقيقة، بمقدار ما ترى ان تعطيل سورية التحقيق يهدد النظام ويحول دون استمراره، وبالتالي فليس هناك مصلحة لدمشق بأن تـقدم نفسها حجر عثرة في طريقه.والتحرك المصري الثاني كان علي المستوي الدولي حيث قام الرئيس مبارك بزيارة باريس للوقوف علي طبيعة الموقف الفرنسي من النظام السوري، خصوصاً بعد التطورات التي أحدثتها اعترافات خدام. وانتهي إلي أن هناك إصرار غربي علي ضرورة التعاطي الإيجابي لسوريا مع عملية التحقيق وعدم تعطيلها. وبدا أن هذا الأمر يفوق ما عداه لدي الرئيس شيراك.وقد أتت التحركات المصرية أُكلها بعد حين، وبادر الأسد بزيادة السعودية، ولكنه تقدم بورقة أعدها وزير خارجيته فاروق الشرع حول تطبيع العلاقات السورية – اللبنانية، تقوم علي إعادة تنسيق التعاون الأمني بين البلدين. وهي الورقة التي لاقت معارضة قوية من مختلف القوي اللبنانية، كما رفضها الرئيس شيراك. ذلك أنها فُهمت علي أنها محاولة سورية جديدة لإعادة رسم دورها في لبنان، وفرض منطق الوصاية ولكن هذه المرة بغطاء عربي.أما لماذا جاء هذا التحرك العربي، فالأمر ببساطة يتعلق بكلفة أخطاء النظام السوري، والتي تقع علي عاتق نظم المنطقة بأسرها، وهو ما يمكن إيجازه فيما يلي:- من شأن تطور التحقيقات وثبوت ضلوع النظام السوري في اغتيال الحريري، سواء صراحة أو ضمناً، أن يدفع بالقيادة السورية نحو المساءلة الدولية، وهو من شأنه أن يرسي أول سابقة من نوعها في المنطقة، ويدفع باحتمالات تكرارها مجدداً مع أنظمة أخري.- من شأن انشقاق خدام، وما قد يحدثه من تصدعات في الداخل السوري، أن يشجع من علي شاكلته في النظم العربية الأخري، خصوصاً إذا ما أفلت خدام من مقصلة الحساب الداخلي وتوفرت له الحماية الخارجية. لذا فمن الأفضل للنظم العربية 'لملمة' المسألة حتي لا تأخذ أبعاداً داخلية.- من شأن الاعترافات أيضاَ أن تزيد من ضعف النظام العربي الرسمي، الذي لم يعد منه سوي هيكله التنظيمي ممثلاً في الجامعة العربية. وذلك في مواجهة المجتمع الدولي، وخصوصاً الولايات المتحدة المتأهبة أصلا لممارسة كافة أنواع الضغط علي العالم العربي، لخدمة مصالحها ومشاريعها في المنطقة.وانطلاقاًَ من الاعتبارات السابقة، وغيرها، كان حرياً بالأقطاب العربية، مثل مصر والسعودية أن تتحرك لتفادي وقوع أي كارثة، تضيف مأساة جديدة للعالم العربي، هو في غني عنها.- مصير النظام السوري وخياراته:مأساة النظام السوري، أنه لا يستفيد من أخطاءه، ومع كل تطور جديد في أزمته مع المجتمع الدولي، تتفاقم تلك الأخطاء، وتنحصر استجابته في صيغة المباراة الصفرية، فإما الاستمرار في التهرب من الاستحقاقات الداخلية أو التمادي في التصعيد مع الضغوط الخارجية. وهو ما يقلل عملياً من الخيارات المطروحة عليه للخروج من الأزمة الراهنة. .ومن سوء الحظ أنه بالفعل قد وصل الآن إلي هذه الصيغة، ولكن بشكل أكثر حدة، يتحتم فيه الجميع بين الأمرين، الرضوخ للداخل، والانصياع للخارج. لذا فمن المتوقع في ظل ما هو معروف عن سلوك النظام السوري، أن يتم الانفتاح التكتيكي علي الداخل بهدف تقليل 'مضايقاته'، خصوصاً في ظل تماسك المعارضة الداخلية وعدم ارتباطها 'الاستراتيجي' بالخارج. وأن يتم التخفيف من لهجته في التعاطي مع الخارج، أو علي الأقل 'اتقاء' التصادم معه، خصوصاً في مرحلة التحقيقات التي دخلت منعطفاً جديداً بعد الاعترافات الأخيرة لخدام.ولا مجال للمبالغة في القول بأن الفرصة لا تزال مواتية أمام سوريا لتصحيح المسارين الداخلي والخارجي، ولا يزال هناك 'دور' عربي يمكن التعويل عليه، رغم محدوديته، ويبقي الأمر رهناً برغبة النظام السوري في إنقاذ نفسه.
Share:

0 comments:

Post a Comment

Telegram

Podcast